كل إنسان في هذه الدنيا قُدر له كل شيء في حياته منذ أن كان في بطن أمه لقوله صلى الله عليه وسلم : (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه في أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي وسعيد) فإذا كان رزقك كتب في ذلك الوقت علاما تحزن فقد اختار الله لك هذا علاما السخط من قلة المال أو عدم حصول أمر تريده قد يكون في هذا الأمر شر لك ولكن الله أراد الخير لك بصرفك عنه لقوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)(البقرة:216).
فالإنسان نظره مقتصر على ما يحدث في لحظته التي يعيشها ولكن لو حكم عقله قليلا في الأمر لوجد انه غير ملائم له فلابد أن ينظر لما يترتب عليه على المدى البعيد ولا يجعل عواطفه تتحكم فيه، قال المتنبي:
ما كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
الدنيا دار يختبر الله فيها قلوب عباده فكل الناس تتغير أحوالها فيها من حال الرخاء إلى حال الشدة "حتى الأنبياء فهذا آدم عليه السلام طاب عيشه في الجنة وأخرج منها ونوح سأل في أبنه فلم يعط مراده والخليل ابتلى بالنار وإسماعيل بالذبح ويعقوب بفقد الولد ويوسف بمجاهدة الهوى وأيوب بالبلاء وداود وسليمان بالفتنة وجميع الأنبياء على هذا حتى خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقي من الجوع والأذى وكدر العيش ما علمناه جميعاً.
وبما أنها وضعت للبلاء فينبغي علينا الصبر والتسليم للمالك والتحكيم لحكمته فنبينا محمد صلوات ربي عليه قد قيل له: (ليس لك من الأمر شيء)(آل عمران:128)" فلابد لنا من الرضا بقضاء الله وقدره ،عن عبادةَ بنِ الصامتِ رضِيَ اللهُ عنه أنه قال لابنِه : إنك لن تجدَ طعمَ الإيمانِ حتى تؤمنَ بالقدرِ , وتعلمَ أن ما أصابَك لم يكنْ لِيخطِئَك , وما أخطأك لم يكنْ ليصيبَك , جفَّتِ الأقلامُ وطُويَت الصحفُ.
متى أدركت هذا ستجد حلاوة في قلبك وتشعر بطمأنينة وراحة لأنك أيقنت وآمنت بالقدر وان ما جرى وسيجري لك هو من المنان فالأمر بيديه عز وجل وليس لك إلا التسليم لحكمته وإن أصابك ما تكره فأعلم أنه خير لك ليقربك منه وتبقى بين يديه على الدوام أليست هذه نعمة ألا حمدت الله عليها.
من حكمته عز وجل تفاوت نعمه على عباده فما لديك ليس لدى غيرك والعكس صحيح فالله يعلم ما يصلح حال كل منا وهو مقسم الأرزاق بين عباده وتجب علينا طاعته بالرضا وقد أرشدنا عليه السلام بدعاء لنحققه في قلوبنا لقوله : (من قال إذا أصبح: رضيتُ باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ نبيًّا فأنا الزَّعيمُ لآخذنَّ بيدِه حتى أدخلَه الجنَّةَ) ما أجمل أن ترضى بما قسم الله لك وتحمده وتشكره على نعمته عليك التي علمتها والتي لم تعلمها فإذا أجرى الله على لسانك الحمد والشكر على فضله كلما تذكرت نعمته عليك فعلم أنه تحقق الرضا في قلبك.
هناك عدة أقوال في الرضا بالقضاء والقدر أذكر منها:
- عن أبي مجلز أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما أبالي على أي حال أصبحت على ما أحب أو على ما أكره، لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره."
- عن الإمام ابن عون قوله: "ارض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر، فإن ذلك أقل لهمتك وأبلغ فيما تطلب من آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبؤس كرضاه عند الغناء والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك؟ ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلكتك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؟ وذلك لقلة علمك بالغيب، وكيف تستقضيه إن كنت كذلك ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا".
- قال ابن القيم: "الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين ،ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنى وأمناً وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه ".
- عن عامر بن عبد قيس قال:"ما أبالي ما فاتني من الدنيا بعد آيات في كتاب الله يعني قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين)(هود:6)وقوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده)(فاطر:2) وقوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك الله بخير فهو على كل شيء قدير)(الأنعام:17) ".
- استنصح بشر بن بشار المجاشعي ثلاثة من الصالحين فقال الأول: "ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن تُفرغ قلبك ويقل همك وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به" وقال الثاني:"التمس رضوانه في ترك مناهيه فهو أوصل لك إلى الزلفى لديه" وقال الثالث:"لا تبتغ في أمرك تدبيراً غير تدبيره فتهلك فيمن هلك وتضل فيمن ضل".
الطريق إلى الله به درجات طويلة لكي ترقى سريعا هذا السلم لابد لك من الرضا بالقضاء والقدر وأن ما يصيبك من الله لرفع منزلتك عنده وبذلك تصبح واثق الخطى وأنت تصعد الدرجات لقوله صلوات ربي عليه: (عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر وكان خيرا له ، و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) هل أدركت الآن أن الدنيا لا تدوم على حال وأنها تتغير وتتبدل أحوالك فيها وليس لك ألا هدي رسولنا الحبيب فمن اخذ به وطبقه سيجد حلولا كثيرة لمواقف عديدة مرت في حياته لم يعرف كيف يخرج منها فلو كان على علم مسبق بها أو حرص على تعلمها أو قاده الله إليها فالوقت المناسب لكان حاله أفضل وأجره أعظم.
الرضا مفتاح إذا ملكته سيفتح لك أبواب الخير ولن تمتلكه إلا إذا أيقنت أن كل ما يحدث لك من عنده وراجع لحكمته فهو المصرف لشؤون عباده وأنت واحد منهم، فما يمنعك أن ترضى بعدما علمت؟