أهوال يوم القيامة
اهوال يوم القيامة والمراحل التي يمر بها الانسان من الموت وحتى منزلتة
اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل الدنيا دار عمل، فإذا انتهى الناس من الأعمال أقيم لهم بعد موتهم يوم يحاسبون ويجازون فيه بأعمالهم، وذلك اليوم هو اليوم الآخر، وتبدأ مشاهده من لحظات فراق الدنيا، فحينئذ يعلم العبد ما هو مقبل عليه من أمره، وقد أخبرنا الله تعالى وأخبرنا رسوله صل الله عليه وسلم عن اليوم الآخر بأخبار مليئة بالأحداث والمشاهد والصور المفزعة، ولا شك أن ذلك كله حادث، وسيعقبه الجزاء الأخير على العمل، فأهل الصلاح إلى جنة النعيم والرضوان، وأهل الشقاء إلى الجحيم والنيران.
تميز القرآن والسنة بتفصيل أحوال يوم القيامة وأهواله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فحديثنا في هذه الوريقات بعنوان: (أحوال وأهوال)، وهذا الموضوع نحتاج إليه في هذا الزمان؛ لأن الفتن تنوعت طرائقها، وامتحان القلوب تعددت مداخله، في ظل عولمة مادية طاغية تريد أن تهلك الحرث والنسل، وأن تدخل إلى البيوت والقلوب لتغيرها وتفسد ما بقي فيها من خير وإيمان وطاعة لله سبحانه وتعالى. كان المصطفى صل الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه أن يتعرفوا على تلك الأحوال والأهوال، وجاء في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام التفصيلات الكاملة التي لا توجد في غيرهما، فإذا جئت إلى التوراة وإلى الإنجيل وما يتبعهما من الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى لا تجد الحديث عن هذه الأحوال والأهوال إلا حديثاً هو نزر قليل، ومن ثم رأينا في عالم اليوم -وخاصة عند النصارى وهم الكثرة الغالبة اليوم -رأينا مادية طاغية تظهر آثارها مشرقاً ومغرباً. أما نحن المسلمين فقد أكرمنا ربنا سبحانه وتعالى وأنعم علينا بالإسلام الذي جاءت فيه تفاصيل تلك الأحوال والأهوال وكأنما نراها رأي العين، لمن ألقى السمع وهو شهيد. وما يكون لمثلي وأنا العبد الفقير المذنب المقصر أن أنقل إليك بعضاً من هذه الأحوال والأهوال، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياك في تلك الأحوال والأهوال من العاملين الفرحين المسرورين الفائزين. أيها الأخ المسلم! سنتحدث إن شاء الله تعالى عن بعض من مظاهر هذه الأحوال والأهوال، ولكن ينبغي أن يستقر في نفس كل واحد منا وهو يقرأ عرضاً مختصراً عن بعضها وأحداثها استشعار حقائق تلك الأهوال والأحوال، ويصور نفسه وكأنه ذلك الذي تتحدث عنه الحادثة، أو تشرح حاله الآية، أو يبين أمره حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. أظنك عرفت المقصود بالأحوال والأهوال، فإنها -والله- ما زال يعيشها ويعيش أحداثاً منها أناس من آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأقرب الناس إلينا، فإن بعض الأحداث من تلك الأحوال والأهوال عاشها من سبقنا، ولكن بقينا نحن وبقيت في الأحوال والأهوال أحداث قادمة سيقدم عليها جميع العباد. وسنقف وقفات قصيرة ولمحات؛ لأن الأحوال والأهوال يطول بعرضها المقام، ولذا سننتخب منها انتخابا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوقظ قلوبنا جميعاً، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال والنيات. سنتحدث عن أحوال وأهوال حول الموت والقبور ويوم القيامة والجنة والنار، فهل تحركت القلوب لتلك الحقائق التي لا شك فيها كما أنكم تنطقون. ......
الموت وأهواله
تعال نقف -أيها الأخ-ايتها الاخت- مع بعض تلك الأحوال والأهوال، ونبدأها بذلك الأمر الذي كتبه الله على جميع الخلائق، إنه الموت الحق الذي لا شك فيه، والدليل الذي نشاهده كل يوم بأعيننا، نودع فيه أناساً كثيرين من الأحباب والأصحاب، بل حتى من الأعداء؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى فيه أن الله كتبه على الجميع فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]. ......
لحظات الوفاة
وأول حدث من أحداث الموت هو أن الإنسان إذا جاءه الموت فقبل قبض روحه تحضر ملائكة الموت، فملائكة الموت تأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتأتي الكافر والمنافق في صور فظيعة مخيفة. ففي حديث البراء بن عازب عند أبي داود وغيره -وهو حديث صحيح- يقول فيه الصادق المصدوق صل الله عليه وآله وسلم: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط -وهو الطيب وما يتبعه مما يوضع بين الأكفان- من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد بصره)، وهذا كله قبل الموت عند حضور موت المؤمن، وهذا دليله قول الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )[فصلت:30]، إ
نها حالة الموت يبشر بها المؤمن بالله سبحانه وتعالى، ويا لها من حالة ما أطيبها للمؤمن وإن كان أهله وأحبابه من ورائه في ألم شديد، لكن شتان بين الحالتين، أولاد وأحباب يبكون، والميت مبتسم يستقبل الملائكة بهذه الأشكال الطيبة، إنه فرح مسرور في لحظة هي من أشد اللحظات التي تمر على الإنسان.قال صل الله عليه وآله وسلم: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الطيبة -وفي رواية: يا أيتها النفس المطمئنة- اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها)، هذه حالة للمؤمن الصادق. أخي في الله! تعال إلى حالة مقابلة لها، هي من الأهوال الفظيعة، يقول الصادق المصدوق في نفس الحديث: (وإن العبد الكافر -وفي رواية: الفاجر- إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد سود الوجوه، معهم المسوح)، والمسوح هي ما يلبس من الشعر من الألبسة والأكسية الغليظة، تلك التي يلبسها البعض تقشفاً؛ قال: (معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده)، يعني أن الروح يصيبها الرعب من هذا الخطاب الرهيب فتنكص إلى الجسد لا تريد أن تخرج؛ لأنها إنما تقبل على غضب من الله، قال: (فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، قال: فتتقطع معها العروق والعصب)، يعني أن ملك الموت ينزع هذه الروح الخبيثة نزعاً من أعماق العروق والعصب، ويا لها من رحلة لهذه الروح حين تخرج هذا المخرج الذي وصفه لنا رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم.ومصداق حضور الملائكة سود الوجوه قول الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال:50-51].
حالات الناس في السكرات
حالة أخرى هي سكرات الموت، ويكفي في بيان سكرات الموت أن سيد المرسلين صل الله عليه وآله وسلم لما جاءه الموت كانت عنده ركوة فيها ماء، فكان صل الله عليه وآله وسلم يدخل يده في الركوة ويمسح بها جبينه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)، وإذا كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بحال من عداه، ثم كيف بنا نحن المساكين المذنبين! ومن هنا فإن أعظم من يعاني من السكرات الكفار، فإنهم يعانون من السكرات أشدها، وتلك عقوبات تكون لهؤلاء معجلة؛ لأنهم كفروا بالله وبيوم الحساب. وفي حال السكرات تكون للناس حالتان: الحالة الأولى: الكافر والعاصي يتمنيان الرجعة، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ )[المؤمنون:99-100]، فالكافر يتمنى العودة ليسلم ويؤمن بالله، وأما العاصي فإنه يتمنى العودة ليتوب مما فرط فيه من الذنوب والمعاصي في حياته الدنيا. أما الحالة الثانية: فإن المؤمن يفرح بلقاء ربه، وكيف لا يفرح والملائكة تتنزل عليه بتلك الصور المشرقة تبشره؟ روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صل الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه). إنه حديث مؤثر في النفس؛ لأننا جميعاً نكره الموت ونفر من الموت، فهل نحن جميعاً من الصنف الثاني؟ لا. لقد كانت بصائر أصحاب رسول الله صل الله عليه وآله وسلم على نور من ربها، فعندما قال المصطفى هذا الحديث قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنا لنكره الموت. تعني: ما الصنيع؟ فإذا كنت تقول: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) فإننا نكره الموت بالطبيعة والجبلة، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام موضحاً ومفرجاً للهموم: (ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه)، وعليه فالموت هو عنوان اللقاء، واللقاء إنما يكون يوم القيامة، فالمؤمن يبشر بالرضوان فيفرح ويستبشر فيحب ما أمامه ويفرح به، فإذا أحب لقاء الله أحب الله لقاءه؛ قال: (وأما الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره مما أمامه، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه). وروى أبو سعيد الخدري -كما في صحيح البخاري - أن النبي صل الله عليه وسلم قال: (إن الجنازة إذا احتملها الرجال إن كانت صالحة قالت: قدموني. وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها -وأهلها في الغالب هم حملة نعشها-: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)، إنها حالة الموت وسكرات الموت، فأين تختار يا عبد الله ويا أمة الله؟ حالتان للموت لا ثالثة لهما، حالة البشرى والسعادة، وحالة البؤس والشقاء، أما المشمرون في مسألة سكرات الموت، فقد روى الترمذي في حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: (الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة) إنها المجازاة، قدم نفسه لربه تبارك وتعالى فأعاضه الله ألا يكون معه من السكرات إلا ألم القرصة، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يرزق الشهادة في سبيله.
حالات الناس في حسن الخاتمة وسوئها
وفي لحظة الموت تبرز حالتان كبريان ينقسم إليهما الناس: الأولى منهما: حسن الخاتمة. والثانية: سوء الخاتمة. وأبدأ بسوء الخاتمة، أسأل الله أن يعافني وإياكم منها. سوء الخاتمة -أيها الأخ في الله- أن يأتي الموت الإنسان وهو غير مستعد له، وأعظم ما يكون من سوء الخاتمة الموت وهو على ضلالة وكفر ونفاق، أو على معصية، نسأل الله السلامة والعافية، فسوء الخاتمة على درجتين: أعلاهما وأخطرهما: أن يموت على شرك أو كفر، أو يموت جاحداً أو شاكاً في دين الإسلام، أو تاركاً للصلاة ونحو ذلك، فهذه خاتمة عنوانها هو الخسران المبين. وحالة أخرى دونها: وهي أن يموت على الإسلام، لكن يموت مصراً على المعاصي غير تائب، فهذا له الحسرة بحسب ذلك، وحسبك بإنسان يموت وهو على مسكر، أو على عقوق والدين، أو ذاهب لخنى وفجور، أو يردد أغنية ماجنة، أو غير ذلك من أحوال سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية. وسوء الخاتمة لها أسباب يجب أن يقف عندها كل مسلم، ومنها فساد الاعتقاد، والإصرار على المعاصي، وسلوك طريق أهل الاعوجاج، والتعلق بالدنيا وعبادتها، ونسيان الآخرة، ومرافقة أصحاب السوء الذين قد يموت الإنسان وهو معهم. أما الحالة الأخرى: فهي حسن الخاتمة التي تكون للمؤمنين الموفقين، وكم سمعنا من أحوال الصالحين الطيبة، ذلك الصالح الذي أحسن الله له الختام فاستعد لما أمامه بتوبة لربه سبحانه وتعالى، فذاك يموت في سبيل الله، وآخر يموت مهاجراً إلى الله ورسوله، وثالث يموت وهو ذاهب إلى الحج أو راجع منه، ورابع يموت وهو ذاهب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وقد أُخْبِرتُ عن مجموعة من الأخيار ذهبوا إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في أقصى هذه البلاد، وبينما هم مسافرون لخطبة الجمعة وإلقاء بعض الدروس إذا بالحادث يأتي فيموت اثنان منهم ويصاب الثالث، أسأل الله تبارك وتعالى أن يتغمد الميتين برحمة منه وفضل، وأن يرزق الثالث الشفاء العاجل، إنها علامة -فيما نحسبهم والله حسيبهم- على حسن الخاتمة. حال يموت فيها مؤمن وهو يصلي لله رب العالمين، رجل خطب الجمعة ثم لما صلى بالناس مات في السجود في الركعة الثانية، وآخر جلس يصلي لصلاة الظهر وبينما هو يصلي إذا به في الركعة الثالثة يسجد السجود الأخير، إنها من علامات حسن الخاتمة، وآخر ينتظر الصلاة فتذهب الروح إلى ربها سبحانه وتعالى وهو يسبح لله رب العالمين. أحوال طيبة مباركة، أحوال خيرة، ما أسعد أصحابها أيها الأخ في الله! أما الاستعداد لحسن الخاتمة فمن وفقه الله تبارك وتعالى لذلك فليبادر إلى مسيرة جديدة، وإلى توبة نصوح قبل أن يأتيه الموت، ولا بد أنه آت إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49] .
أهوال القبور وأحوالها
ثانياً: القبور أهوالها وأحوالها: مات الميت واحتمله أهله، مات الميت وسارع بحمله أهله، فأحب الناس إليه يسارعون في نقله إلى ظلمة القبر، هل رأيت حالة أعجب من هذه الحالة أيها الأخ في الله؟! هل رأيت حالة أعجب من أن يسارع إلى إنزاله في ظلمة القبر أحب الناس إليه؟! هل تدبرت هذه الحال وتصورت أنك أنت صاحب الحال؟ القبر حقيقة لا شك فيها، لكن تعال لنقف عند بعض أهوالها وأحوالها: القبر مظلم، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام سمع بامرأة كانت تقم المسجد أنها ماتت، ولم يعلموه بموتها، فسأل عنها، ثم ذهب إلى قبرها فصلى عليها بعد دفنها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل منورها لهم بصلاتي عليهم)، فصلى الله على هذا النبي الكريم الذي يسأل عن أمة سوداء ماتت لم يعرف بموتها إلا القليل. ظلمة القبر هي التي أقضت مضاجع الصالحين، كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: يا أمير المؤمنين! تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتذكر القبر فتبكي؟! فقال رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه). قال رضي الله عنه: وسمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه) رواه الترمذي و ابن ماجة ، وهو حديث صحيح.
ظلمة القبر ومنظر القبر حقيقة ستكون داخلها -أخي في الله- قرب الزمان أو بعد، فأعد لذلك المقام مقالا، فسيدخل الإنسان في قبره، فالمؤمنون يدخلون القبور، بل سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم دفنه أحبابه في القبر وأهالوا عليه التراب، ولما رجعوا قالت فاطمة رضي الله عنها: كيف سمحت لكم نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! هذا القبر يدفن فيه كذلك الكفار؛ لأن غالب الكفار يستخدمون القبور إلا النادر منهم، ثم إن القبر حالة برزخية لا ينفك عنها من دفن ومن لم يدفن، ولذا فإن من أهوال القبر ضمة القبر، روى النسائي وغيره -وهو حديث صحيح- في قصة موت سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز عرش الرحمن لموته أنه قال: (لقد ضم ضمة ثم فرج عنه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد بن معاذ) ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها نجا منها سعد بن معاذ) رواه الإمام أحمد ،
فهل ينجو منها أحد؟ عن أنس مرفوعاً أن النبي صل الله عليه وسلم قال: (لو أفلت أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي)، فما موقعك -يا عبد الله- إذا وضعت في القبر وضمك القبر ضمة، هل تراك ناجياً بعد ذلك؟! وفي القبر فتنة القبر وسؤال الملكين، فلا ينجو من السؤال أحد، تسأل الأسئلة الكبرى: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالناس على حالتين: مجيب يتحول القبر بعده إلى روضة من رياض الجنة، يفتح له فيه مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها وريحانها. وآخر لا يجيب على الأسئلة الواضحة وضوح الشمس، فيضرب بمطرقة من حديد فيصرخ صرخة يسمعها جميع المخلوقات إلا الثقلين، ولو سمعناها ما تدافنا، كما قال صلى الله عليه وسلم. وهنا -أيها الأخ- يكون عذاب القبر ونعيمه، حالتان من حالات القبر تستمران مع عباد الله إلى يوم يبعثون، فالكفار يتحول القبر عليهم إلى حفرة من حفر نار جهنم النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، الكفار في لهيب النار، وإن كنا إذا نظرنا إلى القبر لا نرى شيئاً، فهو عذاب برزخي، أما المؤمنون الصادقون فما أطيب مقعدهم! أحباب الميت يرجعون إلى بيوتهم أسفين حزينين، والواحد منهم ربما رجع من الباب الآخر فرحاً أنه نجا من الموت، ولكنه لم يعلم أن أخاه الذي مات على الإيمان والطاعة أحسن حالاً وأطيب منزلاً من قصره المعمور، حالة حقيقية لا شك فيها وهي أن قبر المؤمن يتحول إلى روضة من رياض الجنة. ......
مشاهد يوم القيامة
ثالثاً: يوم القيامة: ......
أوصاف يوم القيامة
يبقى الناس في قبورهم من مات ومن سيموت ومن تقوم عليهم الساعة، يبقون في قبورهم ما شاء الله تبارك وتعالى على تلك الحال إلى يوم القيامة، ويوم القيامة جاء تفصيل أحداثه في كتاب الله تعالى، وجاءت له أسماء معبرة، فهو يوم القيامة، وهي الساعة، وهي الحاقة، وهي الآزفة، وهو يوم التناد .. إلى آخر أسماء يوم القيامة. لكن هناك أسماء تدل على هول ذلك اليوم، فيكفي أن يصفه ربنا تبارك وتعالى بأنه يوم عظيم، قال تعالى: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[المطففين:4-6]. (وهو يوم ثقيل إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا )[الإنسان:27]. (وهو يوم عسير، قال تعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ )[المدثر:9-10]. هذا اليوم تجتمع فيه الأهوال من كل جانب، وهو يوم الرعب والفزع العظيم، ووالله إن تصوير ذلك اليوم لا يستقيم التعبير عنه أمام كلام الله تبارك وتعالى لأحد، فاقرأ القرآن تعرف حقائق ذلك اليوم، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )[الحج:1-2]. (وهو يوم تشخص فيه أبصار الظلمة على مختلف أنواع ظلمهم، قال تعالى: وَ(لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ *مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ )[إبراهيم:42-43]، شاخص البصر لا يرتد إليه طرفه من شدة الهول. وهو يوم تبلغ فيه القلوب الحناجر، قال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ )[غافر:18]. وهو يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهو يوم يجعل الولدان شيباً، إنه يوم عظيم، فهل أحضرت في ذهنك ذلك اليوم العظيم وتصورت نفسك واحداً من ذلك الجمع الكبير؟ ما هي حالك يا عبد الله؟ ويكفي في هول ذلك اليوم أنه يوم طويل جداً، نحن في الدنيا نعيش سنوات معدودات، لكن ذلك اليوم قال تعالى عنه: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، وبعد أن يكسى إبراهيم يكسى محمد صل الله عليه وسلم ثم الأنبياء ثم المؤمنون. أما الكفار والفجار فهل يكسون يوم القيامة؟ الجواب: لا. ولكن يسربلون بسرابيل القطران ودروع الجرب من نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية.
الحساب
وننتقل مختصرين إلى حالة أخرى من أحوال وأهوال يوم القيامة، ألا وهو الحساب: تصور نفسك واقفاً للحساب وللجزاء، تلاقي ربك ليس بينك وبينه ترجمان، ويكلمك ربك بأعمالك، ويُنشَر كتاب بسطت فيه أعمالك لا يترك الكتاب منها شيئاً، كما قال تعالى عن المجرمين: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )[الكهف:49]، ويبدأ الحساب والمحاضرة الربانية، فماذا عملت في دنياك؟ أيها الأخ في الله! يحاسب الله العباد في ساعة واحدة، كما يبعثهم في ساعة واحدة، إنه الله الذي لا إله إلا هو وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. وفي الحساب ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم أن الدواوين ثلاثة، فقف معها -يا أخي- وقفة متأمل: ديوان لا يقبل الله معه صرفاً ولا عدلاً: إنه ديوان الشرك والكفر إذا مات العبد عليه، فلا يكتب له حسنات ولا عمل صالح، ومهما عمل الصالحات في دنياه فإنها تكون هباء منثوراً، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا )[الفرقان:23]، فهل تصورت فظاعة الموت على الشرك بالله؟ هل تصورت فظاعة الموت على الكفر بالله سبحانه وتعالى؟ إنه الوقوف العظيم بين يدي الله تبارك وتعالى حيث لا يقبل الله مع الكفر صرفاً ولا عدلاً، هذا الديوان الأول، فيا أخي في الله في مشارق الأرض ومغاربها! اتق الله وابتعد عن الشرك أكبره وأصغره، اتق الله ولا تشرك بالله شيئاً إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، اتق الله ولا تتعلق بغير الله من ولي أو صاحب قبر أو طاغوت، اتق الله وأخلص التوحيد لربك؛ فإن الأمن يوم القيامة لا يكون إلا للمؤمنين الموحدين. الديوان الثاني: ديوان لا يترك الله منه شيئاً، فلا بد من تدقيق الحساب فيه، وهو حقوق العباد بعضهم على بعض، فيوم القيامة يبنى على المشاحة، لا قريب ولا صديق، ومن ثم فكل إنسان يريد حقه لأنه خائف، ومن ثم فالحقوق بين العباد لا يترك الله منها شيئاً، حق مال، أو حق عرض، أو حق دم، أيما حق عليك لأي أحد من أهل الجنة أو من أهل النار فوالله لتحاسبن عليه في هذا اليوم في ذلك الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، وإنما يقتص العباد بعضهم من بعض. فهل تدبرت تاريخك وحياتك مع عباد الله وتذكرت يوم تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى؟ فيا من تعادي إخوانك المؤمنين وتكيد لهم! ألا تعلم أنهم سيأخذون حقوقهم منك يوم القيامة؟ فتب إلى الله سبحانه وتعالى، فإن هذا ديون عظيم أيها الأخ المسلم. وأما الديوان الثالث: فهو ديوان بعد ذينك الديوانين، فمن نجح في الديوان الأول وهو التوحيد الخالص لله، ثم صفى الديوان الثاني وهو حقوق العباد، فالديوان الثالث هو ما بين العبد وبين ربه، فمن رحمة الله للعبد المؤمن أن هذا الديوان لا يترك الله منه شيئاً، فيغفره جميعه لعبده المؤمن، فأين أنت من ربك الغفور الرحيم؟ أين أنت من حسن الظن بربك سبحانه وتعالى؟ اللهم آمنا في ذلك اليوم واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين.
انحلال العلاقات الدنيوية يوم القيامة
ومن الأهوال -أيها الأخ في الله- هول عجيب، هول إذا عشنا صورة منه في الدنيا تكاد الأفئدة تتقطع، ألا وهو علاقة القرابة والأحبة، تأمل أحوال الناس في هذه الرابطة الدنيوية، كيف أن الأم تموت حسرة وكمداً خوفاً على وليدها، والأب كذلك، والزوج والزوجة والأخ والأخت، فلاحظ معي -أيها الأخ- في هذه الدنيا كيف أن الإنسان يقدم لمن يعز عليه نفسه فداءً، وهذا موجود والحمد لله. فالأم دائماً دعاؤها أن لا تذوق يوم وفاة ولدها، أن تموت هي قبله فتفديه بنفسها، والأب والزوج والزوجة، لكن إذا جاء يوم القيامة فالهول فظيع جداً أيها الأخ في الله، فالأنساب تتقطع (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون:101]، بل والله -أيها الأخ- إن هول ذلك اليوم لأشد من ذلك، ليته اقتصر على تقطع الأنساب في ذلك اليوم، إنه أعظم هولاً وأفظع، إن من صور هول ذلك اليوم أن المجرم يود لو يفتدي من عذاب جهنم بأحبته، فهل تصورت ذلك اليوم الذي يتمنى أن ينجو فيه وأن يقذف بأمه وأبيه وصاحبته في نار جهنم! قال الله تبارك وتعالى: (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعني أنهم في ذلك اليوم يرون الحقائق (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:11-16]،
ولا يمكن أن يفتدى. ويجوز أن يفتدي الإنسان نفسه بملء الأرض ذهباً، لكن أن يفدي المجرم نفسه بأحبته فهذا والله هول شديد، يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ [يونس:54]، إذاً لماذا تظلم اليوم من أجل الأرض والمال ومتاع الدنيا الزائل، ألا تتذكر -يا عبد الله- أنك في يوم القيامة لا تتمنى قليلاً من المال لتفتدي به، وإنما تتمنى ما في الأرض جميعاً، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ )[الرعد:18] فالظالمون والكافرون يتمنى أحدهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدي به، لكن أنى له ذلك؟ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ [الرعد:18]. أما الكافر فإن الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91]، ثم هأنت تبيع دينك لأجل عرض من الدنيا! روى البخاري في صحيحه أن النبي صل الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال: كنت سألتك ما هو أيسر من ذلك، سألتك أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك).
صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وأبأسهم في الجنة
وفي أهوال يوم القيامة صور متنوعات عجيبات، سنقف مع مواقف مختصرة منها، ولا أريد أن أقول: صغيرة لأنها -والله- أهوال كبيرة. موقف يجتمع فيه الخلائق، ثم يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، وتأمل كيف أن هذا الموقف سيكون أمام العالم كله، أمام الأولين والآخرين، فقبل دخولهم النار يؤتى بأنعم أهل الدنيا، ولك أن تتصور أنعم أهل الدنيا وما الذي اجتمع له من الجاه والسلطان والمال والبساتين إلى آخر النعم التي تتصور، يؤتى به يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة واحدة في ثانية أو أقل من ثانية، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله -يا رب- ما رأيت خيراً قط، وما مر بي نعيم قط. نسي نعيم الدنيا. وصورة أخرى مقابلة، يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة ممن اجتمع عليه المرض والفقر والجوع والابتلاء... إلخ، ثم يصبغ صبغة في الجنة، فيقال له والناس يسمعون: هل رأيت بؤساً؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت بؤساً وما مر بي بؤس. مشاهد عظيمة من مشاهد يوم القيامة، والناس ينظرون وينتظرون بقية الحساب.
موقف الفرط المحتسب
وهناك مشهد آخر هو مشهد الصبي الذي مات قبل البلوغ، لكن أباه مؤمن وأمه مؤمنة، فاحتسبا أجره عند الله وصبرا: تصور صبياً يوم القيامة يبحث في ذلك الهول الفظيع؛ إنه يبحث عن والديه، فيمسك بهما والله أعلم ما حال والديه، فقد يكونان مقصرين، وقد يكونان مذنبين، لكن الصبي يأخذ بهما ويشفع عند ربه ويقول: يا رب! لا أدخل الجنة إلا مع والدي، فيشفعه الله فيهما، لاحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى والصبر عنده.
موقف الشهيد من الشفاعة
وهناك مشهد آخر، فالشهيد ورد أنه يشفع لسبعين من أهل بيته، فلك أن تتصور كيف حال الشهيد مع أهل بيته في عرصات القيامة، فيختار منهم سبعين يطلب لهم الشفاعة ويشفعه الله فيهم، فهل سيقدم على والديه أحداً؟ هل سيقدم على زوجه وأولاده أحداً؟ الجواب لا. لكن سينتقل أيضاً إلى الآخرين، ولك أن تتأمل حالك -يا عبد الله- وأحد أقربائك من الشهداء وأنت في هول فظيع، وهو صاحب لك في الدنيا يعرفك، أراك ستقبل عليه تريه وجهك لعله يتذكرك فيعدك من السبعين الذين يطلب الشفاعة لهم، فما حال ذلك الذي يسخر من الشهداء في سبيل الله ويقول: فلان مجنون راح للجهاد ومات فيه، أمه مسكينة ذهب ولدها ومات في سبيل الله، لكن أن يموت في حادث سيارة أو يموت مدمناً للمخدرات، فهذا حدث عادي لا يستنكره الناس.
تصنيف وتمييز أهل الجنة والنار
ويجتمع العباد ويأتي الهول الفظيع، وسأحكي الحديث لأنه يصور الأمر صورة واضحة تماماً، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وآله وسلم قال: (يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. ثم يقول الله: أخرج بعث النار. قال -أي آدم-: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال صل الله عليه وسلم: فذاك حين يشيب الصغير، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الرجل؟ ولكن البشير صل الله عليه وسلم قال لهم: أبشروا؛ فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجلاً. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. ثم قال: شطر أهل الجنة). مشهد فظيع (أخرج بعث النار يا آدم) وهو أبو البشر، فما حالك يا عبد الله؟ هل تكون من هؤلاء الذين يؤمر بهم إلى النار، أم من أولئك الذين يؤمر بهم إلى جنات النعيم؟
الجزاء والمقر الأخير
رابعاً: الجنة والنار:......
جزاء أهل الشقاوة
ونبدأ بالنار أعاذنا الله وإياكم منها: والصراط منصوب على متن جهنم يمر عليه الناس جميعاً، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا )[مريم:71]، يقول الرسول صل الله عليه وآله وسلم: (ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء) متفق عليه.
ونار جهنم يلقى فيها من أهل النار الأعداد الكثيرة، والكافر فيها يضخم جسمه حتى يصير ضرسه مثل جبل أحد، كما ثبت في الحديث الصحيح، وما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام، فتصور الكافر بهذا الحجم العظيم، ويلقى فيها الكفار جميعاً، ويتكردس من يتكردس من عصاة الموحدين، والنار تشتد تغيظاً وزفيراً (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ )[ق:30] (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ )[ق:30]، نار قعرها بعيد، الحجر يهوي فيها سبعين خريفاً لا يبلغ قعرها. وجهنم -أيها الأخ- يؤتى بها يوم القيامة، فهل تصورت جهنم يؤتى بها ونحن في القيامة واقفون بين يدي الله للحساب والجزاء، وهل تصورت كيف يؤتى بها؟ روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك)،
ألا ما أعظمها من نار! نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا منها. وأبواب الجنة ثمانية، لكن أبواب النار سبعة لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44] ويساق الكفار إلى جهنم زمرا، أي: جماعات. أيها الأخ المسلم! وصف النار فظيع جداً، إن الناس في الدنيا يتقون الحر والكرب بالماء والهواء، والحر هو الكرب في الدنيا، ونجد كثرة استخدام الناس الماء والهواء للتبريد والظل بعداً عن الشمس وحرارتها، لكن النار يكون أهلها في عذاب شديد حتى في هذه الأمور الثلاثة، فأهل النار في سموم وفي ظل من يحموم وماؤهم الحميم الذي بلغ الغاية في الغليان وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة:43]، وهو ظل دخان نار جهنم لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:44]، انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ *لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ *كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [المرسلات:30-33]، ومن ثم فهذه النار لا تبقي ولا تذر، بل تدمر كل شيء وتأكل كل شيء، وهذه النار وقودها الناس والحجارة، وهي دائمة لا تنقطع كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]. وهي نار تتكلم، فهل تصورت ناراً تتكلم؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج يوم القيامة عنق من النار لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق، تقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) صححه الترمذي .
وأما الحالة الاجتماعية فالأقارب في نار جهنم، والضعفاء والأسياد حالهم شر حال، وأهل النار يلعن بعضهم بعضاً كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38]، ويكون الحوار بين الضعفاء والمستكبرين، ولكنه حوار لا ينفع، إنها الدعاوى التي لا تقبل أبداً. هل تأملت -أيها الأخ- ذلك اليوم وأمامك نار جهنم حين تزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلى جثا على ركبتيه من الخوف؟ هل تصورت المشهد فعملت لذلك المشهد؟ يا عبد الله! تذكر في جميع أحوالك في هذه الدنيا نار جهنم، وتمثل ذلك اليوم وأنت ذليل خائف وجل لا تدري متى يؤمر بك إلى النار، إن هول ذلك اليوم أقض مضاجع الصالحين العابدين القانتين، فكان الواحد منهم يبكي فإذا قيل له: ألست على كذا وكذا من الخير؟ فيقول: ولكن أخاف في ذلك اليوم أن يقول الله: خذوه إلى النار ولا يبالي تبارك وتعالى. يوم يغضب الله فيه غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإذا كان هذا حال الصالحين فكيف حال المقصرين؟ ألا يخاف العبد أن يأمر الله الملائكة بأن تأخذه إلى نار جهنم ولا يبالي تبارك وتعالى وهو الغني عن العالمين؟ ويشتد الهول في نار جهنم حين يذبح الموت، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صل الله عليه وسلم.